حجم الخط

الوقت.. قوة

درس الباحثان الاجتماعيان كلوفر وستروبرج  الوقت في تصور المجتمع التقليدي الأفريقي والمجتمع الحديث، وتوصلا إلى أن هناك عدة قبائل في أفريقيا، مثل النوير، ليس في قاموسها اللغوي ما يسمى بالوقت، ونقلا عن عالم الأنثروبولوجيا إيفانز بريتشارد أن هناك طريقتين لحساب الوقت عند النوير، هما الوقت البيئي (الإيكولوجي)، ويتضمن التوقيت بدورة المواسم كالشتاء والصيف، وما يحدث فيهما من أحداث طبيعية، وهم يقيسون الوقت بحسب المهام، مثل وقت حلب الحيوانات لأنهم رعاة، كما أن الأسر تؤرخ بالحوادث المهمة بالنسبة لها، مثل الزواج. أما الطريقة الثانية لحساب الوقت، فهو التوقيت البنوي –كما يسميه إيفانز بريتشارد- وهو يعتمد على سمات مهمة للجماعة، كالحروب والطقوس المعتادة عندهم، وينتهي بريتشارد إلى أن نظرتهم للوقت تعلي من شأن التاريخ والأساطير، وبسبب هذا صارت نظرتهم للحياة ترتبط بالماضي.

وأرى أن الوقت في المرحلة التقليدية في المجتمع السعودي يتشابه إلى حدٍ ما مع المجتمع التقليدي الإفريقي إلا أن مجتمعنا يمتاز بارتباط توقيته بالدين غالباً، وكذلك بالنشاط الزراعي –الذي يعد النشاط الاقتصادي الرئيس آنذاك-، إذ إن الإنسان يبدأ يومه بعد صلاة الفجر، وينتهي بعد صلاة العشاء، وبينهما يرتب نشاطه الاقتصادي والاجتماعي ويربط التزاماته الاجتماعية، ووجبات طعامه بأوقات الصلوات الخمس، ويقدر الوقت بمدى قربه أو بعده من وقت الصلاة، وبموسم الحج ورمضان، أما التوقيت الزراعي، فغالباً ما يكون موسمي، مثل الوسم، والقيظ (وقت نضج الرطب) ونحوها، كما أن المجتمع يهتم كثيراً بالتأريخ بالسنوات المهمة مثل سنوات الجفاف والقحط، أو سنوات الرخاء، أو سنوات الحروب وغيرها.

أما المجتمعات الحديثة، فتهتم بالوقت اهتماماً كبيراً، إذ يقسمونه إلى وحدات صغيرة كالسنوات والأشهر والأيام والساعات والدقائق، كما اهتمت الدراسات العصرية باستشراف مستقبل الفرد والجماعات، وتوعية الفرد بأهميتها بالنسبة لتطوير ذاته واكتشاف مهاراته الشخصية بوصفها من روافد استثمار الوقت والإنتاج، وتعد مصطلح (المستقبل) من المصطلحات الجوهرية الدالة على أهمية الوقت.

قد لا أبالغ إذا قلت إن كل أو أكثر كتب تطوير الذات ودوراتها تريد أن توصلنا في النهاية إلى ضبط الوقت وحسن استثماره ليتحول من وقت فراغ طويل لدى الفرد إلى قوة معرفية أو اقتصادية أو اجتماعية، فإدارة المفاوضات، أو إدارة الصراع، أو حتى الاهتمام بهوامش القضايا التي تؤثر فينا دون أن نشعر مثل التعود على قول "لا"، والرؤية التفاؤلية وغيرها كلها تعني في النهاية أن الوقت قوة، سواء بشكل مباشر وغير مباشر، فسلوك الإنسان وحسن تقديره للعواقب وشخصيته الواضحة الصريحة هي التي تحفظ له وقته أو تهدره.

وأعتقد أنه لا قيمة ولا أهمية لإشغال الإنسان نفسه بأشياء يعدها نافعة كالقراءات والدورات  مالم يحسن استثمارها لتتحول إلى قوة لها نتائج تعود بالفائدة لصاحبها، فكثير من الناس يقرأ بنهم في تطوير الذات ويدخل دورات كثيرة، ولكنه لا يسمح للمعلومات بأن تنفذ إلى أعماقه وتؤثر فيه وتغير من سلوكه ومن قناعاته، فبعض الناس يقرأ ليحفظ نوادر الأقوال والقصص، ثم يباهي بترديد ما حفظه وربما يدعو الآخرين لتطوير الذات بالقول لا بالفعل، ومن ثم فلن يملك رؤية واضحة عن انعكاسها على تفكيره وسلوكه وما تحققه له من مكاسب معنوية وحسية.

ويهتم علم الاجتماع بالوقت ومعرفة جوانب قوته، كما يهتم ب"وقت الفراغ" ويحذر من دوره في تحطيم الإنسان معنوياً وروحيا، ويؤكد على تنمية الشخصية وتطوير الذات، لتحقيق الإنجاز الشخصي والاجتماعي، مع عدم إهمال وقت الترويح الإيجابي.

أما "الوقت الحر" فهو يعني الوقت غير المخطط له من قبل الفرد، أو الساعات التي تمر بالفرد، ولا ينتج خلالها ما يفيد نفسه أو المجتمع، ولا يمارس الأنشطة الترويحية.

ويرتبط بالوقت فرع مهم من فروع علم الاجتماع، وهو علم اجتماع الشباب الذي يهتم بدراسة الشباب وهم يستثمرون أوقات فراغهم.

اهتمت عدد من الدراسات، مثل دراسة أسبار،(1426هـ) بقضية الوقت لدى الشباب، فعند سؤال الشباب السعودي عن ساعات وقت الفراغ، أجاب 40% من أفراد العينة بأن لديهم وقت فراغ كبير يومياً (4-6 ساعات فراغ)، وأن 32% من أفراد العينة يعانون من مشكلات قضاء وقت الفراغ، وهذا يؤكد أن ثقافة الشباب مرتبطة بأنشطة وقت الفراغ والترويح؛ إذ أن تسلية الشباب لأنفسهم في نشاط ترويحي معين يعطيهم انطباع بالتماسك وبالتميز، لأن تمتع الشباب بالأنشطة التي يختارونها في قضاء أوقات فراغهم يدل على استقلالهم.

- النظرية الاجتماعية

يفسر علم الاجتماع الوظيفي التنوع الموجود في مفاهيم الوقت بأنه يعكس الفوارق الاجتماعية والثقافية بين المجتمعات، إذ يؤكد عالمي الاجتماع المعروفين، سوروكن وميرتون أن الوقت يمكن أن يساعد على وحدة المجتمع، "وأن لمفاهيم الوقت وظيفتها التنسيقية بين مختلف الأنشطة التي تحدث في المجتمع، فكل جماعة تضع وقتها ليتلائم مع سلوكها؛ لذا فإن للوقت وظيفته التكاملية، إنه يخلط معاً جميع أفعال الفرد لكي تستفيد الجماعة من جمع الجهود وتساندها، وهذا يكون واضحاً –بصورة خاصة- عندما تكون الحياة صعبة، لأننا نجد أن استعمال الوقت يتغير لكي نستطيع مواجهة تغيرات الحياة وتحدياتها ... إن مفاهيم الوقت تظهر وسط حياة الجماعة وتستمر بواسطة الحاجة إلى التنسيق الاجتماعي، وهي نتاج التفاعل الاجتماعي".

- اعرف شخصيتك من وقتك

يمكن تصنيف الشخصية من حيث استثمار الوقت إلى ثلاثة أنماط، هي حداثي أو عصري وتقليدي وانتقالي، يمثل الوقت قيمة كبرى لدى الأشخاص الحداثيين؛ لأن لديهم انتباهاً شديداً لتفاصيل الوقت وجزئياته، وهم يقدرون أوقاتهم وأوقات الآخرين، وينطبق هذا على الأشخاص الانتقاليين، ولكن بدرجة أقل، بينما الأشخاص التقليديين لا تعني لهم قيمة الوقت والإفادة منه شيئاً كثيراً، ويتعاملون مع الوقت ‑في الغالب‑ كيفما اتفق.

ومن أبرز سماتهم ما يلي:

١- الحداثي

    • يحافظ على وقته

 

    • يحافظ على أوقات الآخرين

 

    • الأولوية دائماً لإنجاز أعماله

 

    • يهتم بحاضره ومستقبله



٢- التقليدي

    • لا يعني له الوقت شيئاً مهماً

 

    • لا يراعي وقت الآخرين

 

    • الأولوية لأوقات التسلية

 

    • يهتم كثيراً بالماضي



٣- الانتقالي

    • نظرته للوقت إيجابية

 

    • يتفهم انشغال الآخرين عنه

 

    • الأولوية أحياناً لإنجاز أعماله

 

    • يفكر في المستقبل



- شخصية المجتمع السعودي

سبق أن أجريت دراسة عن موقف الشباب السعودي من قيمة الوقت، وكشفت النتائج الإحصائية أن الشباب السعودي في المرحلة الانتقالية في إفادته من الوقت، أي أنه ليس تقليدياً ولا حداثياً.

- تجارب مع الوقت

ومن تجربتي الشخصية وتجارب كثير ممن أعرفهم أو أقرأ لهم في إدارة الوقت التي أثبتت فاعليتها بالنسبة لي، أني اتبعت ثلاث استراتيجيات مكلفة اجتماعياً ولكنها مثمرة، أولها يكمن في التطبيق العملي للحديث الشريف: "بورك لأمتي في بكورها"، فأنا منذ طفولتي أنام مبكراً ولا أنام بعد صلاة الفجر، وبعد اهتماماتي البحثية خصصت الوقت الواقع بين صلاة الفجر وبداية الدوام للإنجاز والبحث، وقد زاد هذا التنظيم من إنجازي وأراحني عدم السهر من التشتت، والثاني التوقف عن متابعة وسائل الإعلام وبخاصة القنوات الفضائية والصحف، لأني لاحظت من سنوات أن الخبر الواحد يصلني أكثر من عشر مرات من خلال الإعلام ومن تطبيقات التواصل الاجتماعي في الأجهزة الذكية، ثم يأتي نفيه غالباً، وتأكدت أن أكثر الأخبار والبرامج وجدت لتشوش العقول أكثر مما تبث حقائق أو معلومات مفيدة، واستبدلتها بتخصيص ساعة يومياً لمتابعة أهم الأحداث والأخبار والترفيه من اليوتيوب ووسائل التواصل الاجتماعي، كما قلصت من علاقاتي الاجتماعية والارتباطات الروتينية واستبدلتها بأن أبحث عن الأشخاص الذين تتحقق معهم المتعة أو الفائدة، غير الالتزامات الاجتماعية الواجبة، ولا أتركهم يبحثون عني.

وأخيراً لا ننسى أن أوقات الترفيه لممارسة الرياضة ومشاهدة البرامج والأفلام السفر تعد من أهم الأنشطة التي تساعد على جودة استثمار الوقت وتحقق التوازن النفسي والاجتماعي للفرد.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *