ما يعنيني من ظاهرة التسول هو جانب التهديد الاجتماعي والاقتصادي والأمني، لأن تفاقم خطر بعض المتسولين الوافدين والمقيمين، من خلال قوة تواجدهم وكثرة الساعات التي يعملون بها، قد حولهم إلى مصدر بيانات ضخمة ومعلومات دقيقة عن المزاج العام للمجتمع، وتقدير درجة كرم الإنسان السعودي وتعاطفه الديني والإنساني، وإمكانية خداعه. ويبدو أنهم استفادوا فعلياً من هذه البيانات، إذ لوحظ ظهور بوادر ظاهرة "التسول بالإلحاح"، وأحياناً باستخدام العنف إذا أتيحت الفرصة لهم. وهذا في رأيي ناتج عن ارتياح المتسولين في مهمتهم واطمئنانهم من عدم وجود أي ملاحقة أو عقوبة.
لذلك أرى عدم ملاءمة النظريات الاجتماعية الكلاسيكية التي تفسر ظاهرة التسول بوصفه ناتج الفقر، وضعف مستوى التعليم، لأنها نظريات موجهة للمتسول المحتاج، ونحن اليوم أمام أكثر من نموذج للمتسولين. إذ تغير واقع التسول من أقلية سعودية، إلى أكثرية غير سعودية، ومن كبار سن وعجائز إلى جميع الفئات العمرية للمجتمع، وخاصة الأطفال، والرضع الذين تحملهن نساء، ومن المدن الكبرى إلى أكثر مناطق ومحافظات المملكة، ومن تسول فردي إلى تسول منظم تديره عصابات، كما قد تستعمل أموال التسول في الاتجار بالبشر والدعارة والمخدرات.
سوف أقدم وصفاً لواقع التسول بمفهومه الجديد معتمداً في بناء افتراضاتي على ملاحظاتي الميدانية، والاطلاع على التقارير والتصريحات المنشورة في الصحف، ومقابلة بعض المواطنين ممن حصل لهم تجارب مع المتسولين، نظراً لعدم وجود إحصائيات للأموال المحصلة من التسول، وعدد المتسولين، وجنسياتهم، وقصصهم التي يرويها الناس، ولا أنماط الجرائم المتولدة من تحركهم داخل المجتمع، وذلك كما يلي:
تركز قضية الأسبوع على ثلاث ظواهر أساسية في التسول، إذ ترى أن التسول قد تجاوز مفهومه التقليدي السائد بوصفه مشكلة اجتماعية محلية، ليتحول إلى قضية تداخل معها قضايا دولية فرضتها الأوضاع السياسية والاقتصادية في المنطقة العربية، وإعادة ظهور مفاهيم قديمة بشكل جديد، كاللاجئين، والاتجار بالبشر، والهجرة غير الشرعية. حيث طالت ظروف الحرب في سوريا دول أوربية، وارتبط وجودهم هناك بمشكلات جديدة، كما طال جزء منها المملكة، وارتبطت مشكلات الذين هربوا من الحرب، وأغلبهم نساء وأطفال، بالتسول أو بيع الأدوات البسيطة كعلب المناديل والمياه والسُّبح، وهذه الظاهرة الأولى، ويمكن عدها ظاهرة تسول مؤقتة، ولكن ينبغي رصدها وتفسيرها مقارنة بمشكلات وجودهم مع الدول الأخرى. أما الظروف السياسية والاقتصادية في اليمن، فقد انعكست على المملكة بكاملها تقريباً، وظهر معها الهجرات غير الشرعية والاتجار بالبشر واستخدامهم لأغراض التسول بشكل غير مسبوق. ثم توسعت مجالاته ودخل فيها عمالة من جنسيات مختلفة أكثرها تخالف أنظمة الإقامة، ليصبح، في رأيي، جريمة منظمة، يعاد إنتاجها من قبل "عصابات إدارة التسول" بشكل تستحق معه أن تصنف قضية اقتصادية وسياسية وأمنية، وهذه الظاهرة الثانية، ويمكن عدها ظاهرة تسول دائمة. أما الظاهرة الثالثة فتتمثل في وجود أحياء شعبية تهيمن عليها جاليات تخالف أنظمة الإقامة، وتصدّر المتسولين وجرائم السطو والسرقات للأحياء الأخرى، علماً بأن بعض هذه الجاليات تقيم في المملكة منذ نصف قرن، وهي تزيد سكانياً بشكل يحمل معه بذور مشكلات جديدة ستظهر.
ولاحظت أن له حالة دائمة، وحالتين موسميتين، هما: التسول في رمضان، ويتركز عند المساجد، وإشارات المرور، والأسواق، والطرق على أبواب المنازل من قبل نساء متسولات، والحالة الثانية في موسم الحج، ويتركز في المدن والقرى الواقعة على الطريق الدولي السريع (الدمام- الرياض- مكة والمدينة). وهذا يعني أن التسول يتحرك بحرية كبيرة في معزل عن مؤسسات الضبط الاجتماعي المعنية. إذ لم تتواكب إدارة مكافحة التسول مع المفهوم الجديد للتسول بدليل أنها ما تزال تقبع في أسفل الهيكلة بحسب موقع وزارة العمل والتنمية الاجتماعية.
ومن هنا، أرى أن التسول قضية استراتيجية، وتقع في اهتمام التخصصات الاجتماعية والإنسانية، في ظل تطور أساليب المتسولين، ونظام قديم، وفشل توعية المواطن بعدم التعاطف معهم، ومن ثم أوصي بضرورة اتخاذ حزمة تدابير أمنية وتنموية تضمن الحد من ظاهرة التسول، وتجفيف أحد أهم منابع "اقتصاد الظل"، ويوصى في هذا المجال: إصدار نظام جديد وفعال لمكافحة التسول، والتعرف على آليات تهريب البشر عبر الحدود البرية الجنوبية وتقديم التوصيات بشأنها، وتصحيح وضع الجاليات التي تخالف نظام الإقامة، وتشكيل لجنة عاجلة لمعالجة الوضع الحالي.
المصدر
نشر في تقرير ملتقى أسبار الشهري نحتاج ورقة التسول فقط
http://multaqaasbar.com/index.php/component/k2/item/206-%D8%AA%D9%82%D8%B1%D9%8A%D8%B1-%D9%85%D9%86%D8%AA%D8%AF%D9%89-%D8%A3%D8%B3%D8%A8%D8%A7%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%AF%D8%AF-%D8%B1%D9%82%D9%85-27-%D9%8A%D9%88%D9%86%D9%8A%D9%88-2017%D9%85
12
مارس
حجم الخط